فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

والخطاب للصحابة وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه اعتناءًا بشأن الحكم، والمراد بالصلاة عند الكثير الهيئة المخصوصة، وبقربها القيام إليها والتلبس بها إلا أنه نهى عن القرب مبالغة، وبالسكر الحالة المقررة التي تحصل لشارب الخمر، ومادته تدل على الانسداد ومنه سكرت أعينهم أي انسدت، والمعنى لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولونه قبلها إذ بذلك يظهر أنكم ستعلمون ما ستقرءُونه فيها، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى لا تقربوا الصلاة وأنتم نشاوى من الشراب حتى تعلموا ما تقرءُونه في صلاتكم ولعل مراده حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقرءُونه وإلا فهو يستدعي تقدم الشروع في الصلاة على غاية النهي، وإذا أريد ذلك رجع إلى ما تقدم ولكن فيه تطويل بلا طائل على أن إيثار {مَا تَقُولُونَ} على ما تقرؤون حينئذٍ يكون عاريًا عن الداعي، وروي عن ابن المسيب والضحاك وعكرمة والحسن أن المراد من الصلاة مواضعها فهو مجاز من ذكر الحال وإرادة المحل بقرينة قوله تعالى فيما يأتي: {إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} فإنه يدل عليه بحسب الظاهر، فالآية مسوقة عن نهي قربان السكران المسجد تعظيمًا له، وفي الخبر: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم» ويأباه ظاهر قوله تعالى: {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} وروي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه حمل الصلاة على الهيئة المخصوصة وعلى مواضعها مراعاة للقولين، وفي الكلام حينئذٍ الجمع بين الحقيقة والمجاز ونحن لا نقول به، وروي عن جعفر رضي الله تعالى عنه والضحاك وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد من السكر سكر النعاس وغلبة النوم، وأيد بما أخرجه البخاري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول» وروي مثله عن عائشة رضي الله تعالى عنها وفيه بعد وأبعد منه حمله على سكر الخمر وسكر النوم لما فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو عموم المجاز مع عدم القرينة الواضحة على ذلك، وأيًا مّا كان فليس مرجع النهي هو المقيد مع بقاء القيد مرخصًا بحاله بل إنما هو القيد مع بقاء المقيد على حاله لأن القيد مصب النفي والنهي في كلامهم ولأنه مكلف بالصلاة مأمور بها والنهي ينافيه، نعم لا مانع عن النهي عنها للسكران مع الأمر المطلق إلا أن مرجعه إلى هذا.
والحاصل كما قال الشهاب: أنه مكلف بها في كل حال، وزوال عقله بفعله لا يمنع تكليفه ولذا وقع طلاقه ونحوه، ولو لم يكن مأمورًا بها لم تلزمه الإعادة إذا استغرق السكر وقتها وقد نص عليه الجصاص في [الأحكام] وفصله انتهى، وزعم بعضهم أن النهي عن الصلاة نفسها لكن المراد بها الصلاة جماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمًا له عليه الصلاة والسلام وتوقيرًا، ولا يخفى أنه مما لا يدل عليه نقل ولا عقل ويأباه الظاهر وسبب النزول، وقد روي أنهم كانوا بعد ما أنزلت الآية لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون. اهـ.

.قال النسفي:

{حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} أي تقرأون، وفيه دليل على أن ردة السكران ليست بردة، لأن قراءة سورة [الكافرين] بطرح اللامات كفر ولم يحكم بكفره حتى خاطبهم باسم الإيمان، وما أمر النبي عليه السلام بالتفريق بينه وبين امرأته ولا بتجديد الإيمان، ولأن الأمة اجتمعت على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه مخطئًا لا يحكم بكفره. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلاَ جُنُبًا} عطف على قوله تعالى: {وَأَنتُمْ سكارى} فإنه في حيز النصب كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبًا قاله غير واحد وقال الشهاب نقلًا عن [البحر]: إن هذا حكم الإعراب، وأما المعنى ففرق بين قولنا جاء القوم سكارى وجاءوا وهم سكارى إذ معنى الأول: جاؤوا كذلك، والثاني: جاءوا وهم كذلك باستئناف الإثبات ذكره عبد القاهر ويعني بالاستئناف أنه مقرر في نفسه مع قطع النظر عن ذي الحال وهو مع مقارنته له يشعر بتقرره في نفسه، ويجوز تقدمه واستمراره، ولذا قال السبكي في الأشباه: لو قال: لله تعالى عليّ أن أعتكف صائمًا لابد له من صوم يكون لأجل ذلك النذر من غير سبب آخر فلا يجزئه الاعتكاف بصوم رمضان، ولو قال: وأنا صائم أجزأه، ولعل وجه الفرق أن الحال إذا كانت جملة دلت على المقارنة، وأما اتصافه بمضمونها فقد يكون وقد لا يكون نحو جاء زيد وقد طلعت الشمس والحال المفردة صفة معنى فإذا قال: لله تعالى عليّ أن أعتكف وأنا صائم نذر مقارنته للصوم ولم ينذر صومًا فيصح في رمضان، ولو قال: صائمًا نذر صومه فلا يصح فيه؛ وهذه المسألة نقلها الإسنوي في [التمهيد] ولم يبين وجهها، ولم نر لأئمتنا فيها كلامًا انتهى كلامه.
ولم يبين رحمه الله تعالى السر في مخالفة هذين الحالين على وجه يتضح به ما ذكره في المسألة، وبين العلامة الطيبي فائدتها غير أنه لم يتعرض لهذا الفرق فقال: فائدتها والعلم عند الله تعالى الإشعار بأن قربان الصلاة مع السكر مناف لحال المسلمين، ومن يناجي الحضرة الصمدانية دل عليه الخطاب بأنتم ولهذا قرنه بقوله سبحانه: {حتى تَعْلَمُواْ} إلخ، والمجنبون لا يعدمون إحضار القلب، ومن ثَمّ رخص لهم بالأعذار فتأمل جدًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والجنُب فُعُل، قيل: مصدر، وقيل: وصف مثل أُجُد، وقد تقدّم الكلام فيه آنفًا عند قوله: {والجار الجنب} [النساء: 36]، والمراد به المباعد للعبادةِ من الصلاة إذا قارف امرأته حتى يغتسل.
ووصفُ جنُب وصفٌ بالمصدر فلذلك لم يجمع إذْ أخبر به عن جمع، مِن قوله: {وأنتم سكارى}.
وإطلاق الجنابة على هذا المعنى من عهد الجاهلية، فإنّ الاغتسال من الجنابة كان معروفًا عندهم، ولعلّه من بقايا الحنيفية، أو ممّا أخذوه عن اليهود، فقد جاء الأمر بغسل الجنابة في الاصحاح 15 من سفر اللاويين من التوراة.
وذكر ابن إسحاق في [السيرة] أنّ أبا سفيان، لما رجع مهزومًا من بدر، حلف أن لا يمسّ رأسَه غسلٌ من جنابة حتّى يغزوَ محمّدًا.
ولم أقف على شيء من كلام العرب يدلّ على ذكر غسل الجنابة.
والمعنى لا تُصَلُّوا في حال الجنابة حتّى تغتسلوا إلخ.
والمقصود من قوله: {ولا جنبًا} التمهيد للتخلّص إلى شرع التَّيمّم، فإنّ حكم غسل الجنابة مقرّر من قبل، فذكره هنا إدماج. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} يقال: عبرت الطريق أي قطعته من جانب إلى جانب.
وعَبَرت النهر عُبورًا، وهذا عِبْر النهر أي شطّه، ويقال: عُبْر بالضم.
والمِعْبَر ما يُعْبَر عليه من سفينة أو قنطرة.
وهذا عابرُ السبيل أي مارّ الطريق.
وناقة عُبْرُ أسفار: لا تَزال يُسافَر عليها ويُقطَع بها الفلاة والهاجرة لسرعة مَشيها.
قال الشاعر:
عَيْرَانَةٌ سُرُحُ اليَدَيْنِ شِمِلّةٌ ** عِبْرُ الهَوَاجِرِ كالهِزَفّ الخاضِب

وعَبَر القومُ ماتوا.
وأنشد:
قضاء الله يغلب كلّ شيء ** ويلعب بالجَزُوع وبالصّبُورِ

فإن نَعْبُرْ فإنّ لنا لُمَاتٍ ** وإن نَغْبُر فنحن على نُذُورِ

يقول: إن مِتْنَا فلنا أقران، وإن بقينا فلابد لنا من الموت؛ حتى كأنّ علينا في إتيانه نُذورًا. اهـ.

.قال الفخر:

قد ذكرنا أن فيه قولين: أحدهما: أن هذا العبور المراد منه العبور في المسجد.
الثاني: أن المراد بقوله: {إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} المسافرون، وبينا كيفية ترجيح أحدهما على الآخر. اهـ.

.قال القرطبي:

واختلف العلماء في قوله: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} فقال عليّ رضي الله عنه وابن عباس وابن جُبير ومُجاهد والحَكَم: عابِر السبيل المسافر.
ولا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جُنُب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم؛ وهذا قول أبي حنيفة؛ لأن الغالب في الماء لا يُعدَم في الحضر؛ فالحاضِر يغتسل لوجود الماء، والمسافر يتيمّم إذا لم يجده.
قال ابن المُنْذِر: وقال أصحاب الرأي في الجنب المسافرِ يمرّ على مسجدٍ فيه عين ماء يتيمّم الصعيدَ ويدخل المسجِد ويستقي منها ثم يُخرج الماء من المسجد.
ورخّصت طائفة في دخول الجنب المسجد.
واحتج بعضهم بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «المؤمن ليس بنجسٍ» قال ابن المُنْذِر: وبه نقول.
وقال ابن عباس أيضًا وابن مسعود وعِكرمة والنّخَعيّ: عابر السبيل الخاطِر المجتاز؛ وهو قول عمرو بن دِينار ومالك والشافعيّ.
وقالت طائفة: لا يمرّ الجنب في المسجد إلا ألاّ يجِد بُدًّا فيتيمم ويمرّ فيه؛ هكذا قال الثوريّ وإسحاق بن رَاهَوْيه.
وقال أحمد وإسحاق في الجنب: إذا توضّأ لا بأس أن يجلس في المسجد؛ حكاه ابن المُنْذِر.
وروى بعضهم في سبب الآية أن قومًا من الأنصار كانت أبواب دُورِهم شارِعةً في المسجد، فإذا أصاب أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد.
قلت: وهذا صحيح؛ يَعْضُده ما رواه أبو داود عن جَسْرة بنت دَجاجة قالت سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوتِ أصحابه شارِعة في المسجد؛ فقال: «وجّهوا هذه البيوت عن المسجد».
ثم دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئًا رجاءَ أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم فقال: «وجِّهُوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحِل المسجد لحائضٍ ولا جُنُبٍ». وفي صحيح مسلم: «لا تبقينّ في المسجد خَوْخة إلا خَوْخة أبي بكر» فأمر صلى الله عليه وسلم بسدّ الأبواب لما كان يؤدّي ذلك إلى اتخاذ المسجد طريقًا والعُبورِ فيه.
واستثنى خَوْخة أبي بكر إكرامًا له وخصوصية؛ لأنهما كانا لا يفترقان غالبًا.
وقد روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أذِن لأحد أن يمرّ في المسجد ولا يجلس فيه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
ورواه عطيّة العَوْفِيّ عن أبي سعيد الخُدْريّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لمسلم ولا يصْلُح أن يجنُب في المسجد إلا أنا وعليّ» قال علماؤنا: وهذا يجوز أن يكون ذلك؛ لأن بيت عليّ كان في المسجد، كما كان بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد، وإن كان البيتان لم يكونا في المسجد ولكن كانا متصِلَيْن بالمسجد وأبوابهما كانت في المسجد فجعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد فقال: «ما ينبغي لمسلم» الحديث.